غزة- حرب إبادة الصحفيين، صمود الحقيقة في وجه العدوان.

المؤلف: فايد أبو شمالة09.19.2025
غزة- حرب إبادة الصحفيين، صمود الحقيقة في وجه العدوان.

لم يشهد أي بقعة على وجه الأرض، عبر مختلف العصور التاريخية، هذا العدد المهول من الصحفيين والإعلاميين الذين استشهدوا في قطاع غزة خلال حرب الإبادة الشرسة التي بدأت في أعقاب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

لقد عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى قتل الصحفيين بكل قسوة، عبر القصف العشوائي، والنسف المتعمد، والقنص الغادر، وتدمير منازلهم فوق رؤوسهم ورؤوس عائلاتهم الأبرياء، في مشاهد وحشية لم يشهد لها العالم مثيلًا. ونتيجة لهذه الاعتداءات الآثمة، ارتقى إلى العلا 207 من الصحفيين والإعلاميين، رجالًا ونساءً، شبابًا وشيوخًا، دون أي تمييز أو احترام لحرمة مهنتهم، بمعدل مأساوي يبلغ ثلاثة شهداء أسبوعيًا، وهو رقم فلكي يفوق بثلاثة أضعاف معدل قتل الصحفيين في جميع أنحاء العالم مجتمعة في أحلك السنوات التي شهدت استهدافًا سافرًا للصحفيين، خاصة في مناطق النزاعات الملتهبة، أو بسبب تحقيقاتهم الجريئة في ملفات الجريمة المنظمة، أو الاتجار بالبشر، أو قضايا الفساد المستشري، وغيرها من المخاطر والتحديات.

لن يكون من المجدي هنا أن نسائل الاحتلال عن الأسباب الكامنة وراء هذا الاستهداف الممنهج والمتعمد – إن لم يكن في كل الحالات – فقد دأب الاحتلال على اختلاق روايات كاذبة وواهية حول علاقة الصحفي الفلسطيني في غزة بقضيته الوطنية العادلة، وبمعاناة شعبه الصامد، وكذلك بفصائل المقاومة الباسلة.

ولفق الاحتلال الإسرائيلي التهم جزافًا ضد بعض الصحفيين الذين أثارت عمليات قتلهم ردود فعل غاضبة واستنكارًا واسعًا على المستوى الدولي، كما حدث إثر اغتيال الصحفي الشاب اليافع إسماعيل الغول، ذلك الصحفي الموهوب والمتألق الذي نقل للعالم أجمع، عبر قناة الجزيرة ومنصاتها المختلفة، أصعب وأقسى مراحل العدوان الغاشم على مدينة غزة المحاصرة، وحصار واقتحام مستشفى الشفاء، وقد اعتُقل من هناك لبضع ساعات، ثم أُطلق سراحه لتنهال عليه صواريخ الغدر الإسرائيلية في يوم إخباري حافل كان يغطي فيه تداعيات اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، ليرتقي الإسماعيلان شهيدين في نفس اليوم وبنفس الطريقة المأساوية تقريبًا، الأول في طهران، والثاني في مدينة غزة.

إستراتيجية ممنهجة للتعامل مع الإعلام

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فرض الاحتلال حظرًا مطبقًا على دخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة، وذلك لسببين جوهريين:

  • السبب الأول: رفع الحصانة عن الصحفيين الفلسطينيين في غزة، فوجود صحفيين أجانب أو أي موظفين دوليين، خاصة من الغربيين، يعني أن على الاحتلال توخي الحذر الشديد والدقة المتناهية في توجيه القصف العشوائي والتدمير الممنهج، كما كان الحال في جميع الحروب السابقة. ولكن هذه المرة، أراد الاحتلال التخلص من هذا العبء الثقيل.
  • السبب الثاني: أن يكون الاحتلال في مأمن من ملاحقة الصحفيين الأجانب الذين سيوثقون – بغض النظر عن مواقفهم السياسية المتباينة – ما تقع عليه أعينهم وكاميراتهم من فظائع وجرائم يرتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وينشرون القصص والحكايات المؤلمة عما يقترفه الاحتلال من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.
    وهذه النقطة تحديدًا نجح الصحفيون الفلسطينيون الأبطال في تعويضها بكفاءة واقتدار، فقد انتشروا في كل مكان، وتأهبوا بكل عزيمة وإصرار، ونقلوا الصورة للعالم بأقصى ما يمكن من تفاصيلها الدقيقة والمؤثرة، وتحملوا أعباء هذه المهمة النبيلة بكل شجاعة وثبات.

إجراءات متنوعة

إزاء هذا الوضع المأساوي، اتخذ الاحتلال سلسلة من الإجراءات التعسفية على النحو التالي:

  • أولًا: إخلاء صحفيي الوكالات والمؤسسات الإعلامية الأجنبية، وهم أصحاب الخبرة الطويلة والكفاءة العالية، فضلًا عن ارتباطهم القوي بالعالم الخارجي، وما راكموه من قدر عال من المهنية والمصداقية فيما يقدمونه من أخبار وصور. ومما يدعو للدهشة والاستغراب أن ذلك حدث بطلب ملح من تلك المؤسسات الإعلامية نفسها تحت عنوان حمايتهم وتأمين سلامتهم، وتم إجلاء الغالبية العظمى منهم إما إلى مصر أو قطر أو دول أخرى.
  • ثانيًا: التدمير الممنهج للمؤسسات الإعلامية الفلسطينية والمعدات والتجهيزات الضرورية، من استوديوهات مجهزة، وكاميرات متطورة، وعربات مخصصة للنقل الخارجي أو الفضائي، وغيرها من المعدات الأساسية.
  • ثالثًا: الاغتيال المباشر لعدد كبير من الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الفلسطينية وقناة الجزيرة الفضائية، وذلك بقصف منازلهم بشكل متعمد، أو قنصهم بدم بارد أثناء أدائهم لعملهم الصحفي بالرصاص الحي أو بواسطة الطائرات المسيرة.
  • رابعًا: التشكيك المستمر في رواية الصحفيين ومهنيتهم ونزاهتهم، واختراع الروايات الكاذبة والملفقة بهدف إضعاف مصداقيتهم وتقويض جهودهم، مما يُسهل استهدافهم في أي وقت وبأي طريقة كانت.
  • خامسًا: الاعتقال التعسفي، فقد أقدم الاحتلال بشكل متكرر على اعتقال الصحفيين والإعلاميين الفلسطينيين والتنكيل بهم وبأسرهم، وفي بعض الحالات، أحرق منازلهم، كما حدث مع الصحفي القدير عماد الإفرنجي أبو مصعب، الذي ما زال يقبع خلف القضبان.
  • سادسًا: الإصابات الخطيرة ومنع الخروج لتلقي العلاج اللازم، وهو ما يثبت بالدليل القاطع نظرية التعمد في الاستهداف. فلو كان ذلك مجرد حدث عارض تسببت به ظروف المعركة وطبيعة المواجهة، لكان الاحتلال حريصًا كل الحرص على تقديم العون والمساعدة المباشرة للصحفيين المصابين، كما يفعل تمامًا لجنوده الذين يتعرضون للإصابات في ميدان المعركة، أو على الأقل لكان سمح لهم بالحصول على الرعاية الطبية الفورية في أقرب نقطة ممكنة، أو السفر إلى الخارج لتلقي العلاج المناسب إذا لم يتوفر ذلك في غزة التي دمر الاحتلال مؤسساتها الطبية الحيوية وأصبحت عاجزة عن تقديم الخدمات الضرورية التي احتاجها أهل غزة في ظروف الحرب الهمجية.
  • سابعًا: التهديد المباشر عبر الاتصالات الهاتفية وعبر شاشات التلفزيون ضمن برامج القنوات الإسرائيلية، وهو الأسلوب الخسيس الذي تكرر مع عشرات الصحفيين والمصورين، وكان هدفه الأساسي هو التخويف والترهيب بهدف وقف التغطية الإعلامية بأي شكل من الأشكال.

كيف واجه الصحفيون الفلسطينيون كل ذلك؟

لم يستسلم الصحفيون الأبطال أمام هذا الاستهداف الواسع والممنهج، بل واصلوا التغطية الإعلامية بكل تفان وإخلاص، وجعلوا ذلك شعارهم الدائم، وأبدعوا في إيجاد البدائل والوسائل المبتكرة لتوصيل الصوت والصورة المباشرة قدر الإمكان، أو المسجلة والثابتة، أو المعلومة والخبر اليقين، ونجحوا ببراعة في فضح ممارسات وجرائم الاحتلال البشعة في كل مناطق القطاع المحاصر، واستندوا في ذلك إلى الخبرات المتراكمة التي توارثها الصحفيون عبر ثلاثة أجيال متعاقبة منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى المباركة، المعروفة بانتفاضة الحجارة عام سبعة وثمانين.

كما استندوا إلى ما يحملونه من إيمان راسخ بدورهم المحوري وقوة تأثيرهم الفعال وقدرتهم الفائقة على حماية شعبهم الصامد من خلال هذا العمل الصحفي والإعلامي النبيل، كما فعلوا في كل الحروب والاعتداءات التي مرت على غزة خلال العقدين الأخيرين، وإلى استعدادهم الدائم لأداء الواجب المقدس والحفاظ على التغطية مستمرة ومتواصلة وعدم السماح بسقوط الصورة أو ضياع الحقيقة.

نتائج مذهلة

انضمت أجيال جديدة من الصحفيين الشباب إلى العمل الدؤوب، وحملوا راية زملائهم بكل فخر واعتزاز، ولم يسمحوا بفرض التعتيم الإعلامي على ما يجري في غزة. وتناقل العالم أجمع، في مختلف أرجائه وأنحائه، المعلومة الصحيحة والصورة الموثوقة، وإن كانت أحيانًا مصحوبة بمشاعر وتعليقات هؤلاء الصحفيين الشجعان أو النشطاء الإعلاميين المخلصين، وتحول معظمهم بسرعة البرق إلى نجوم لامعة نظرًا لوجودهم الدائم في دائرة الخطر المحدق، وتشابك علاقتهم الوثيق بما حولهم من أحداث وتطورات، فبيوتهم مستهدفة بشكل مباشر كما كل أهل غزة الصامدة، وعائلاتهم أيضًا قصفت أو نزحت قسرًا كما كل سكان غزة، ورآهم العالم أجمع يصرخون خوفًا وهلعًا، أو يهربون فزعًا ورعبًا، أو يرتجفون بردًا وجوعًا، أو يتألمون من الجراح والإصابات البليغة، أو يودعون أحبابهم وأقاربهم الشهداء بقلوب دامية. ولم تعد قصتهم مجرد حدثًا شخصيًا عابرًا، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من المشهد العام لشعب بأكمله يتعرض لكل أشكال العدوان الهمجي الرهيب.

لا شك أن غزة المحاصرة استطاعت أن تحكي قصتها للعالم أجمع بكل جرأة ووضوح من خلال هؤلاء الصحفيين والإعلاميين الأبطال، وفشل الاحتلال فشلًا ذريعًا في كتم الحقيقة وطمس معالمها، وفشلت معه مؤسسات إعلامية دولية كانت تبدو عملاقة وضخمة حتى رآها العالم متقزمة وفاشلة وربما متآمرة، فلا هي قاتلت بشراسة من أجل حماية الصحفيين والإعلاميين في غزة، ولا من أجل الدخول إلى غزة والمشاركة الفعالة في تغطية حرب عظيمة ومدمرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حرب تجعلنا نطلق عليها عن جدارة واستحقاق اسم "حرب الإبادة"، ولا قامت بواجبها المهني والأخلاقي في نقل الصورة الصحيحة والأمينة للأحداث، أو الدفاع المستميت عن حق الصحفيين الفلسطينيين في أن يتمتعوا بكل ما تنص عليه مواثيق العالم من حصانة وحرية.

أما صحفيو غزة الأبطال، فقد استحقوا عن جدارة واستحقاق أن يحصدوا كل جوائز الشجاعة والإقدام في كل المهرجانات أو المحافل العالمية، فقد ثبتوا وصمدوا وثابروا وتحملوا وكابدوا والتصقوا بشعبهم وبقضيتهم العادلة، ونقلوا للعالم أجمع كل صور المعاناة التي لم تغب آثارها البتة عن تعبيرات وجوههم الشاحبة، أو حدقات عيونهم الدامعة، أو نبرات أصواتهم المبحوحة، أو على أجسامهم النحيلة وممتلكاتهم المتناثرة.

الأجيال الثلاثة

ربما يكون ذلك نوعًا من التأريخ الشخصي المتواضع لمهنة الصحافة والإعلام في غزة الصامدة، وليس تأريخًا علميًا دقيقًا ومفصلًا، فالمهنة لم تبدأ عندما بدأت أنا، بل سبقني وجيلي أعداد غفيرة من الصحفيين والإعلاميين المرموقين على مدى سنوات طويلة، ولكنني لاحظت أن جيلي كان يمثل طبقة متكاملة من الصحفيين المتخصصين في مختلف المجالات الإعلامية، وغالبيتهم الساحقة واكبوا الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى المعروفة بانتفاضة الحجارة التي انطلقت في عام 1987.

ثم واكبوا ما تبعها من تطورات سياسية متلاحقة، خصوصًا "عملية السلام" واتفاقيات أوسلو المشؤومة وإقامة السلطة الفلسطينية بعد عودة الزعيم الراحل ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد نشأت علاقتي بالصحافة والإعلام مع هذا الجيل الذي استهدفه الاحتلال الغاشم أيضًا في حرب الإبادة الشرسة، كما كان الحال في استهداف الصحفي الكبير مصطفى الصواف، الذي ارتقى شهيدًا هو وعدد من أفراد أسرته الكريمة.
أما الزميل الآخر الذي ينتمي لهذه المرحلة أيضًا فكان الزميل وائل الدحدوح، مدير مكتب قناة الجزيرة الفضائية في غزة، الذي استهدف هو وعائلته وبيته، وأصيب هو بجروح بالغة، بينما استشهد عدد من أفراد أسرته الأبرياء.
والصحفي القدير عماد الإفرنجي، وهو من رموز صحفيي غزة أيضًا، فقد نكل به الاحتلال أيما تنكيل بعد اعتقاله التعسفي، كما أحرق بيته وهجر أسرته إلى جنوب القطاع بطريقة شديدة الوطأة والقسوة تدل على سادية ووحشية منقطعة النظير.
ولا أبالغ إطلاقًا إن قلت إن معظم أبناء الجيلين: الأول والثاني، هم الذين خرجوا من رحم انتفاضة الأقصى المباركة عام 2000، وعاشوا حروبًا متتالية منذ عام 2008، وهؤلاء من أمثال الصحفي القدير تامر المسحال ومؤمن الشرافي وهشام زقوت وغيرهم ممن يعملون في المؤسسات الإعلامية المتنوعة، قد تمرسوا على تغطية الحروب والاعتداءات المتكررة منذ عام 2008 وحتى عام 2021. وتعرضوا أيضًا للاستهداف المباشر بالقتل أو الإصابة أو التهديد أو الاعتقال، واستهداف أسرهم وبيوتهم الآمنة.

أما الجيل الثالث الواعد، فهم ربما ظهروا بعد حرب عام 2021 أو قبلها، ولكنهم تميزوا وبرزوا بشكل لافت بعدما حملوا الراية بكل اقتدار خلال أصعب المعارك الفلسطينية على الإطلاق منذ انطلاق طوفان الأقصى في نهاية العام 2023، وقدموا صورة مشرفة عن بطولتهم وشجاعتهم ومهنيتهم العالية وانتمائهم الوطني الصادق وحمل قضية شعبهم العادلة، وحق لنا أن نفخر ونعتز بهم، وأن نترحم على أرواح 207 من الزملاء الشهداء الأبرار، ونتمنى الشفاء العاجل للجرحى والمصابين، والحرية للأسرى والمعتقلين منهم، وأن يعوض الله سبحانه وتعالى كل المتضررين خيرًا.

وليست حكاية الصحفيين والإعلاميين في غزة سوى نموذج مصغر من كل شرائح الشعب الفلسطيني الصامد في غزة، فقد صقلتهم التجارب المريرة وعركتهم الحروب المتواصلة وألهمتهم تجارب الأجيال السابقة ورموزها الوطنية، وأجبروا على تحمل أعباء ثقال وجسام، فمنهم من قضى نحبه شهيدًا، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة